تلقى فضيلة المفتي حسنين محمد مخلوف استفتاء من أعضاء البعثات والجاليات المصرية، عن حكم الشريعة الغراء في صيام رمضان للمسلمين المقيمين في شمال أوربا، حيث تبلغ مدة صوم اليوم فيه 19 ساعة.
وقد تزيد إلى 22 ساعة أو أكثر، فأرسل فضيلته إليهم الفتوى الآتي نصها، ومهَّد فيها بما يحبِّب لهم الصلاة والصوم؛ خوفًا عليهم من الافتتان في هذه البلاد.
(الجواب): إن التشريع الإسلامي في العبادات قد بني على توثيق الصلات بين العبد وربه، وحسن قيام العباد بحق الله تعالى الذي أفاض عليهم نعمة الوجود، ومنَّ عليهم بالفضل والجود والخير والإحسان: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]. فهي تربية وتهذيب، ونظام وإصلاح يرقى بالفرد والمجتمع إلى مراقي السعادة والفلاح.
ورأسها وعمادها الصلاة، وهي مناجاة بالقلب واللسان بين العبد ومولاه، يشهد فيها العبد افتقاره لخالقه، وإحسان الخالق إليه مع استغنائه عنه، ويعلم عن يقين أن الأمر كله لله، وأن لا معبود بحق سواه، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.
ومن أهمها الصيام وهو رياضة روحية تُعِدُّ النفوس البشرية للسمو إلى معارج الكمال، والتحليق في أجواء العلم والعرفان، وتُعوِّدها الصبر والثبات والقوة والعزة، وتصفِّيها من شوائب المادية وعوائق الجسمية، وتبغِّض إليها المآثم والمنكرات، وتحبِّب إليها الفضائل والمكرمات.
وقد بني تشريع الصوم كما بني التشريع الإسلامي عامة على السماحة والتيسير والطاقة والرفق بالناس، فلم يكن فيه إعنات ولا إرهاق، ولم يكن فيه حرج ولا عسر.. قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وقال في الصوم: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". وفي الحديث الصحيح: "سددوا وقاربوا".
هذه السماحة، وهذا اليسر، قد ظهر جليًّا في فريضة الصوم؛ في الترخيص بالفطر للمسافر ولو كان صحيحًا، لما يلازم السفر غالبًا من المشقات والمتاعب، وللمريض لضعف احتماله وحاجته إلى الغذاء والدواء، حتى لا تتفاقم علته أو يبطئ برؤه، ولمن ماثلهما في الضرورة والاحتياج إلى الفطر؛ كالحامل التي تخاف على نفسها أو جنينها المرض أو الضعف.
والمرضع التي تخشى ذلك على نفسها أو رضيعها، والطاعن في السن الذي لا يقدر على الصوم. فأباح الإسلام لهؤلاء فطر رمضان على أن يقضي كل من المسافر والمريض والحامل والمرضع ما أفطره في أيام أخر خالية من الأعذار، وعلى أن يخرج الشيخ الفاني فدية الصوم عن كل يوم أفطره، حسب ما بُيِّن في الفقه.
والصوم الشرعي يبتدئ من طلوع الفجر وينتهي بغروب الشمس كل يوم، فتختلف مدته باختلاف عروض البلاد، وكيفما كانت المدة فإن مجرد طولها لا يعدُّ عذرًا شرعيًّا يبيح الفطر، وإنما يباح الفطر إذا غلب على ظن الإنسان بأمارة ظهرت أو تجربة وقعت أو بإخبار طبيب حاذق أن صومه هذه المدة يفضي إلى مرضه أو إلى إعياء شديد يضره.
كما صرح به أئمة الحنفية، فيكون حكمه حكم المريض الذي يخشى التلف أو أن يزيد مرضه أو يبطئ شفاؤه إذا صام.
هذا هو المبدأ العام في رخصة الفطر وفي التيسير على المكلفين، وكل امرئٍ بصير بنفسه، عليم بحقيقة أمره، يعرف مكانها من حِلِّ الفطر وحرمته. فإذا كان صومه المدة الطويلة يؤدي إلى إصابته بمرض أو ضعف أو إعياء يقينًا.
أو في غالب الظن بإحدى الوسائل العلمية التي أومأنا إليها، حلَّ له الترخص بالفطر، وإذا كان لا يؤدي إلى ذلك حرم عليه الفطر. والناس في ذلك مختلفون، ولكل حالة حكمها، والله يعلم السر وأخفى. والله أعلم[1].
[1] فتاوى دار الإفتاء المصرية 1/104.
الكاتب: الشيخ حسنين محمد مخلوف
المصدر: فتاوى دار الإفتاء المصرية